بنفسج

فدوى طوقان: في رحلتيها الجبلية والأصعب وحلم ينتهي برفقة الشعر

الإثنين 13 فبراير

إذا أردت تخطي عتبة فدوى طوقان، فلا بد من قراءة رحلتيها "الجبلية الصعبة" و"الأصعب"؛  فاستنباط سيرتها الذاتية من عمق وطبيعة الحياة التي عاشتها "رحلة جبلية، حياة صعبة"، وصعوبتها، كائنة في طبيعة المجتمع الفلسطيني بعاداته وتقاليده -خصوصًا إذا كنا نتحدث عن عقود مضت-، حيث منعها والداها من إكمال تعليمها، فضلًا عن المعاملة الجافة التي حظيت بها من قبل عائلتها -باستثناء إبراهيم-، الذي لطالما استأنست به، إذ تلقت على يديه قواعد الشعر والنحو والبلاغة.

يقول سميح القاسم في تقديمه لكتاب طوقان -رحلة جبلية رحلة صعبة-: "رحلة فدوى طوقان الجبلية، رحلتها الصعبة حقًا لم تكن مجرد حياة أخرى؛ إنها نقيض العادي وهي شاهد ثقة على الانشطار الهائل بين الحلم الجامح من جهة، والواقع المعقد من جهة أخرى"[1]. وإن فدوى طوقان ليست مجرد أديبة فلسطينية، بل هي ظاهرة تبلورت فيها الحياة الثقافية والاجتماعية الفلسطينية، لقد سارت مسار الكشف والتخطي، ورسمت ثالوثًا قامت عليه حياتها: تنويرًا وتثويرًا وتغييرًا!

يكمل سميح، "وهي تدرك تمامًا أن العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة. حيث نستطيع أن نبصر من سيرة طوقان ذات المرأة الفلسطينية المبدعة، الطموحة، القوية، الواثقة، المرأة الفلسطينية التي تستطيع أن تطوع كل الصعوبات لتجعلها مكمن قوة وطاقة لها، فلطالما كان الاحتلال سببًا يجعل المرأة تنافخ وبقوة عن نفسها وبيتها وعائلتها".

| ليست مجرد أديبة

فدوى طوقان ليست مجرد أديبة فلسطينية، بل هي ظاهرة تبلورت فيها الحياة الثقافية والاجتماعية الفلسطينية، لقد سارت مسار الكشف والتخطي، ورسمت ثالوثًا قامت عليه حياتها: تنويرًا وتثويرًا وتغييرًا! وهي تدرك تمامًا أن العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة.
 
تعكس أعمال طوقان زوايا حياتها التي جعلتها تذوي إلى نفسها أحيانًا، فتذكر أنها مرت بمرحلة من الكآبة الحزن والضياع، ونجدها تتمرد وتثور أحيانًا أخرى.

تعكس أعمال طوقان زوايا حياتها التي جعلتها تذوي إلى نفسها أحيانًا، فتذكر أنها مرت بمرحلة من الكآبة الحزن والضياع، ونجدها تتمرد وتثور أحيانًا أخرى، تذكر طوقان أنّ والدتها لم تكن ترغب بإنجابها فحاولت إجهاضها غير مرة، كما اسود وجه والدها وهو كظيم، عندما علم أنه مولودته فتاة وهو الذي كان المال والبنون له زينة الحياة الدنيا.

"كنت أتلهف للحصول على حب أبويّ، واهتمام خاص، وتحقيق رغبات لم يحققاها لي في يوم ما". فلم يتذكرا تاريخ مولدها عندما بلغت أشدها. فما كان من والدتها إلا أن أسكتتها بلصق تاريخ ولادتها بعام يقترن بموسم "العكوب"[2]. تقول طوقان "كانت أمي كجميع الناس في بلادنا، تؤرخ الوقائع بأحداث بارزة رافقت تلك الوقائع، كانت تقول- جرى ذلك عام الثلجة الكبيرة، أو عام الجراد، أو عام الزلزال. وهي عادة في التأريخ كانت متبعة لدى الجيل السابق ولا تزال معمولا بها في بعض القرى الفلسطينية"[3].

كان والدها ينتمي للتيار القومي المناوئ للانتداب، وقد تعرض للاعتقال أكثر من مرة، كما شهدت طوقان وعائلتها عمليات القمع والمطاردة والاضطهاد التي مارستها حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين، منها إبعاد والدها إلى مصر خلال فترة الانتداب.

لم يكون مسموحًا لفدوى ولأمها وأخوتها البنات التحرك بحرية، أو عقد الصداقات النسائية، والخروج للمروج، أو تبادل زيارات القهوة الصباحية مع الجارات. "عندما كبرت عرفت مصدر الشقاء الخفي، إنه الحصار والقهر الاجتماعي المفروض على المرأة في بيتنا".

كبرت طوقان والمرض يرافقها، فقد كانت مصابة بالملاريا منذ الصغر، انعكس ذلك على بنيتها ولون بشرتها "وهكذا، كنت أنزوي في ليلة القدر عند ركن الساحة المكشوفة أرفه وجهي إلى السماء ضارعة إليها أن تجعل خدي لونًا جميلًا مشربًا بالحمرة حتى يكفوا عن تسميتي بالصفراء والخضراء، فقد كانت تلك التسمية تجرح إحساسي إلى درجة كبيرة".

لم يكون مسموحًا لفدوى ولأمها وأخوتها البنات التحرك بحرية، أو عقد الصداقات النسائية، والخروج للمروج، أو تبادل زيارات القهوة الصباحية مع الجارات. "عندما كبرت عرفت مصدر الشقاء الخفي، إنه الحصار والقهر الاجتماعي المفروض على المرأة في بيتنا". وعندما تقول فدوى "بيتنا" فإن ذلك يدل على عن أن قانون عائلتها يشدد على المرأة بصورة خاصة، فيما يتعلق بالدراسة والخروج والتنقل.

 |  فدوى طوقان في مقدمة الشعر النسائي العربي

أنزل يوسف على طوقان أخته الأصغر عقابًا شديدًا، وكان ذلك لقاء حبها شابًا لم يتعد الخامسة عشرة من عمره. كان كما وصفته لطيفًا، يبادلها نظرات هادئة في الصباح ولم يتعد الأمر ذلك.
 
لم تتخط الطفلة فدوى حدود الجغرافية التي حددها لها شقيقها، فكان الانتحار هو الهاجس الذي يسيطر عليها، ثورة وتمردًا على من سلب حريتها، ولكنها لم تستطع إشفاقًا على والدتها. فأورثها ذلك عزلة وانكفاءً على النفس، وتحصنًا في العزلة.

عاصرت طوقان عددًا من الشعراء الفلسطينيين المرموقين أمثال سميح القاسم، وتوفيق زياد، ومحمود درويش، وإميل حبيبي. وقد تشاركت معهم في اللقاءات والندوات الأدبية الداعمة لمسيرة التحرير الفلسطيني. كما حصلت طوقان على جوائز عديدة من مختلف الأقطار، ومن أهمها جائزة أفضل شاعرة عربية[4].

طوقان المولودة في نابلس (1917م-2003م)، وأخت الفلسطيني الشاعر إبراهيم طوقان الذي تلقت تعليمها على يديه، منذ أن تركت مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية! فما الذي صنع طوقان التي لقبها محمود درويش بأم الشعر الفلسطيني؟

لم تدرس طوقان إلا لخمس سنوات أولاها في المدرسة الفاطمية وآخرها في المدرسة العائشية الشرقية، وكان أعلى صف فيها هو الصف الخامس. لم تترك المدرسة في نفس طوقان إلا الأثر الطيب، وهي كما تقول عثرت على أجزاء نفسها الضائعة فيها، وكانت مميزة في دروسها وعند معلماتها.

أما الحب الذي اختبرته لأول مرة في حياتها فقد كان وبالا عليها، تقول: "ثم حلت اللعنة التي تضع النهاية للأشياء الجميلة، دخل علي يوسف كزوبعة هائجة، وأصدر حكمه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي. كما هددني بالقتل إذا تخطيت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام"[5]. أنزل يوسف على طوقان أخته الأصغر عقابًا شديدًا، وكأنه الثمن التي دفعته لقاء حبها شابًا لم يتعد الخامسة عشرة من عمره. كان كما وصفته طوقان لطيفًا، يبادلها نظرات هادئة في الصباح ولم يتعد الأمر ذلك.

| حين أشرقت

حين حضر شقيقها إبراهيم من بيروت ليدرّس في مدرسة النجاح الوطنية. تغيرت حياة فدوى، "ومع وجه إبراهيم أشرق وجه الله على حياتي". هكذا تقول طوقان. لقد نسيت فدوى شقاءها وراحت تعيش حاضرها الذي جعله إبراهيم حقلًا أخضرًا، أصبحت تسابق الزمن على جناح الحلم.
 
تعلمت فدوى على يديه قراءة الشعر دون أخطاء، ومن ثم نظمه في قواعده الصحيحة، ولو كانت طوقان تعلم أن حاضرها خصب جميل، لما جزعت من ماضيها البائس.

لم تتخط الطفلة فدوى حدود الجغرافية التي حددها لها شقيقها يوسف، فكان الانتحار هو الهاجس الذي يسيطر عليها، ثورة وتمردًا على من سلب حريتها، ولكنها لم تستطع إشفاقًا على والدتها؛ فأورثها ذلك عزلة وانكفاءً على النفس، وتحصنًا في العزلة، إلى أن حضر إبراهيم من بيروت ليدرّس في مدرسة النجاح الوطنية. "ومع وجه إبراهيم أشرق وجه الله على حياتي". هكذا تقول طوقان، لقد كان مسبب الفرح وباعثه، فمنه أول هدية ومعه أول سفر. " مع إقامة إبراهيم في نابلس بدأ سطر جديد في حياتي، أصبحت خدمته وتهيئة شؤونه هدف حياتي ومصدر سعاتي المفقودة، أرتب غرفته، أمسح الغبار عن رفوف كتبه وعن طاولته. أهيء له كل صباح الماء الساخن لحلاقة ذقنه وأحضره إليه..".

لقد نسيت فدوى شقاءها وراحت تعيش حاضرها الذي جعله إبراهيم حقلًا أخضرًا، أصبحت تسابق الزمن على جناح الحلم، تعلمت فدوى على يديه قراءة الشعر دون أخطاء، ومن ثم نظمه في قواعده الصحيحة. ولو كانت طوقان تعلم أن حاضرها خصب جميل، لما جزعت من ماضيها البائس. الحاضر الذي جعلها تصمم على تحقيق ما تحلم به، الحاضر الذي جعلها تستيقظ والفجر بكل نشاط وحيوية.

 |  ولكن ماذا عن فدوى الثائرة؟

ح7.png

تصف طوقان نابلس بأنها مسرح الثورات، وأهلها موصوفون بالتمرد والعصيان وشدة البأس، وقد ظلت هذه المدينة تحتفظ بذات التقاليد النضالية اتجاه الاحتلال البريطاني والاستعمار الغربي. وقد برز عدد من الشعراء وعلى رأسهم إبراهيم ممن عبروا عن الوجدان الفلسطيني وإلى جانبه عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى"، وعبد الرحيم محمود، وكانت أعمالهم باكورة أدب الثورة الفلسطينية والذي أصبحت فدوى جزءًا منه فيما بعد، حيث نظمت قصائدها الوطنية عقب ثورة 1936م.  ولكن قلمها سال بطابع وطني ثوري بعد نكسة حزيران 1967م بغزارة أكبر.

تقول طوقان:

أنت يا شمس القضية

نم هنا في الوطن الحاني، فأنت الآن فيه

يا بعيدًا وقريبًا

يا فلسطيني أنت!

أيها الرافض للموت هزمت الموت حين اليوم مت؟

كما أنها ترثي ضحايا فردان، شهداء النضال، الذين كانوا قناديلًا نستضيء بهم في قطار المقاومة. ولكن:

ماذا أقول لهم وعن عيني ومن قلبي تسيل دماؤهم

ذهب الذين نحبهم

رحلوا وما ألقت مراسيها سفينتهم ولا

مسحت حدود المرفأ النائي عيون الراحلين

 

وفي أواخر سنون رحلتها الجبلية نظمت طوقان أبياتا، خُطّت على شاهد قبرها:

كفاني أموت على أرضها وأدفن فيها

وتحت ثراها اذوب وافنى

وابعث عشبًا على أرضها...

 


[1] فدوى طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة، ط2، 1985، ص4

[2] نبته شوكية تستخدمها النساء الفلسطينيات في الطيخ ولها مذاق طيب، تنمو في جبال نابلس والمناطق الفلسطينية الأخرى.

[3] نفس المصدر، ص8

[4] حصلت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان على العديد من الأوسمة؛ مثل: وسام أفضل شاعرة للعالم العربي، وجائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر الأبيض المتوسط، وجائزة سلطان العويس، ووسام الاستحقاق الثقافي، وجائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، ووسام القدس، وجائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، وجائزة عرار السنوية للشعر، وجائزة البابطين للإبداع الشعري، بالإضافة إلى جائزة كفافس للشعر.

[5] طوقان، المصدر السابق، ص55